سؤال علمي محير .. كيف نشبع وكيف نجوع
اسفرت نتائج دراسة الباحثين من الولايات المتحدة عن توصلهم إلى تحديد منطقة في الدماغ تعمل على إثارة الرغبة لدى البعض في تناول المزيد من الطعام بما يفوق حد الشبع. وقال الباحثون إن من المحتمل الاستفادة من هذا الاكتشاف في وضع إستراتيجية علاجية للسمنة عبر استهداف زيادة نشاط تلك المنطقة الدماغية المتحكمة بالشعور بالجوع.
وبهذا تزداد وضوحاً ملامح صورة تلك العلاقة في ما بين الدماغ من جهة وبين كل من شهية الأكل والجوع والشبع من جهة أخرى. وتكتسب الدراسات والبحوث الطبية حول دور الدماغ في تنظيم وضبط شهية الأكل ومقدار ما يتناوله المرء منه، أهمية عالية اليوم، نظراً للانتشار «الوبائي» لحالات كل من السمنة وزيادة الوزن. إذْ تشير الإحصاءات الطبية، في الدول التي تهتم بإجرائها وتستفيد منها، إلى أن حوالي ثلثي السكان إما مصابون بزيادة الوزن أو بالسمنة، كما في الولايات المتحدة. وهذا ما يستهلك في تلك الدولة حوالي 93 مليار دولار سنوياً، أي حوالي 9% من النفقات الصحية على المستوى القومي، في تكاليف العناية بالسمنة وتبعاتها الصحية سنوياً.
وثمة قصة طبية لمراحل بحث العلماء في علاقة الدماغ بالسمنة، خاصة في جوانب تعليل الإقبال على المأكولات، التي يتفق البشر على أنها لذيذة الطعم عند الأكل والاستمتاع به، كي تُضاف هذه القصة إلى قصة أخرى، سبق طرحها عن تأثيرات تفاعل أعصاب الإحساس بطعم الدهون في الفم، على السمنة وزيادة الوزن.
شهية عصبية كيميائية وبالرغم من عدم اكتشاف البشر لأي وسيلة علاجية «تشفي» من السمنة أو زيادة الوزن، إلا أن السنوات القليلة الماضية شهدت في الواقع حالة من «الطفرة» الحميدة في معرفة البشر بتلك الطرق التي تتحكم وتضبط رغباتنا في تناول الأطعمة، والتي إذا ما حصل فيها أي اضطرابات، ظهرت مشاكل السمنة أو زيادة الوزن. وما تتجه المعرفة الطبية نحو جلاء جوانبه، هو آليات تلك العمليات العصبية الكيميائية المعقدة complex neurochemical التي تنظم شهيتنا لتناول الأكل وعلاقتها بوزن جسم أحدنا.
وأهمية هذه المعرفة هي لفهمنا بشكل أوسع سبب وكيفية إصابة البعض بالسمنة، ولإيضاح تأثيرات أنواع الحمية على وزن الجسم وتمييز ما هو فاعل ومفيد منها، ولجلاء حقيقة العلاقة بين السمنة وبين مضاعفاتها، كالسكري وأمراض شرايين القلب وغيرهما، ولوضع وسائل علاجية آمنة وفاعلة للسمنة.
والعلماء قد بدأوا بالفعل في بعض من جهود الترجمة التطبيقية لتلك المعلومات المتوفرة حول دور الجهاز العصبي في الأكل، نحو تطوير وسائل علاجية واعدة قد تقطع من الأصل مشاكل اضطرابات الوزن، لأن الحاجة إلى مثل هذه الوسائل الآمنة والفاعلة، تمليها تلك الضرورات التي اتضحت من فشل الطرق العلاجية الموجهة نحو حل «عالمية» مشكلة السمنة أو اضطرابات الوزن، مثل الوسائل الجراحية المستنفدة لطاقات المعدة في علاج مشكلة السمنة والمتسببة بتبعات صحية خطيرة، وكذلك من صعوبة اتباع الكثيرين للحمية الغذائية الصحية، وظهور موضات من الحميات الغذائية غير الصحية ذات التأثيرات الصحية الضارة على المدى البعيد. وتسبب العلاجات الدوائية الواسعة الانتشار، مثل زينيكال، في مضاعفات صحية على مستخدميها وفي أيضاً المحدودية الشديدة في إنقاص الوزن.
اختراق تاريخي
ويُعتبر اكتشاف هرمون ليبتين leptin عام 1994 اختراقا تاريخيا رئيسيا في حقل دراسات العلوم العصبية لفهم السمنة. ذلك أنه ولأول مرة، يُكشف النقاب عن وجود هرمون تفرزه خلايا الأنسجة الشحمية ويتحمل مسؤولية مهمة في الحث على عملية تناول الطعام. ويُؤدي ارتفاع نسبة هرمون ليبتين إلى تنشيط عمل خلايا معينة في الدماغ تعمل على إثارة الشعور بالشبع والامتلاء وخمود الرغبة في شهية الأكل، بينما يُؤدي انخفاض نسبته إلى إثارة الشعور بالجوع. بل وصل العلماء إلى حد الاعتقاد بأن دور هرمون ليبتين أهم من هرمون الأنسولين في تنظيم التوازن الدقيق والحساس فيما بين كمية طاقة (كالورى) وجبات الطعام المتناولة وبين حرق واستهلاك الجسم لتلك الطاقة الداخلة عليه.
هذا ولا يزال يوجد شيء من الغموض حول كيفية عمل هرمون ليبتين على ضبط الشهية للأكل، إلا أن البحوث الحديثة تُوحي بأن هرمون ليبتين يضبط شهية الأكل عبر التفاعل مع مناطق معينة في الدماغ معنية بالشعور بالمكافأة والمردود، ما يجعل من تناول أطعمة شهية معينة أكثر متعة للإنسان. وهنا بيت القصيد في شأن الشهية والأكل والسمنة، إذ ان «المتعة» و«اللذة» هي المسيطرة على المرء حال تناوله للطعام وإكثاره منه، نتيجة للاستمتاع به بالدرجة الأولى. ولذا تشير تلك الدراسات إلى أن أطعمة حلوة الطعم ودسمة المحتوى، تثير الرغبة في تناولها، بخلاف أطعمة صحية غير مثيرة للرغبة في تناولها كالخضار النيئة في السلطات أو الحبوب الكاملة المجردة.
لكن الآمال باستخدام طريقة علاجية ما للتعامل مع هرمون ليبتين باءت في بداياتها بالفشل، لأن العلماء اكتشفوا أن الأمور، في جانب دور الجهاز العصبي والهرموني على السمنة، هي أعقد بكثير من مجرد اكتشاف هرمون واحد وتحديد بعض من ملامح تأثيراته على مناطق متعددة من الجسم. ولاحظوا أن قلة جداً من البدينين يستجيبون لتأثيرات تناول هذا الهرمون، أما الغالبية فتنشأ لديهم حالة من مقاومة الجسم وممانعته لتأثيرات الكميات المتناولة منه.
هرمون غريلين
ثم جاء الحديث عن هرمون آخر يُدعى هرمون غريلين Ghrelin. وغريلين هرمون تم اكتشافه عام 1999، وتفرزه الخلايا المبطنة لأعلى المعدة، بهدف إثارة الشهية للأكل. ولذا ترتفع نسبة هذا الهرمون قبل الأكل، وتنخفض بعده.
كما تنخفض نسبة هرمون غريلين لدى منْ تم لهم إجراء عمليات تقليص وتحزيم المعدة، وتقل بالتالي لديهم الشهية للأكل حتى قبل تناول الواحد منهم للطعام. ويُعتبر هرمون غريلين، الهرمون المضاد في المفعول لهرمون ليبتين، الذي هو، كما تقدم، هرمون تفرزه خلايا الأنسجة الشحمية لإثارة الشعور بالتخمة والشبع. إلا أن عمل هرمون غريلين أسرع ويتفاعل الجسم معه على مستوى «ما بين وجبة والتالية لها»، ولذا ترتفع نسبته في الدم سريعاً لتخبر الدماغ بأن المعدة خالية، وبمجرد امتلاء المعدة، بالأكل أو أي شيء آخر كبالون منفوخ، ينخفض مستواه.
لكن المفارقة، التي قد تحير البعض، هي أنه بشكل عام في المقارنة، تقل نسبة هذا الهرمون في أجسام الأشخاص البدينين مقارنة بالنحيفين! إلا أن الأهم في الأمر هو أن الإنسان حينما يبدأ بحمية غذائية، قاسية أو حنونة، فإن نسبة هرمون غريلين تبقى مرتفعة بشكل متواصل، ما يزيد من العبء على الدماغ، وما يثير الشعور الدائم بالحاجة إلى ضرورة تناول الطعام، وبالتالي ما يُؤدي إلى فشل التزام المرء بالاستمرار في تلك الحمية.
ولذا ثمة باحثون يُحاولون البحث عما يُعيق عمل أو إنتاج هرمون غريلين لمساعدة المرء على استمراره في حمية إنقاص الوزن. كما أن ثمة من يعمل على إنتاج لقاح يقوم بإعاقة وصول هرمون غريلين إلى خلايا الدماغ، وبالتالي منع تأثرها بمفعول هذا الهرمون، كوسيلة لإنقاص الوزن.
بحوث متواصلة
وتواصلت الدراسات العلمية لفحص علاقة هذا الهرمون بهرمون آخر يُدعى هرمون أوبستاتين Obestatin. وهرمون أوبستاتين يعمل على خفض مستوى شهية الأكل، وتم اكتشافه في عام 2005. وأهمية معرفة العلاقة بينهما ليست نابعة فقط من ذلك التضاد في ما بين مفعول كل منهما، بل أيضاً من أنهما يُنتجان في خلايا الجسم تحت تأثير «جين» وراثي واحد.
إلى أن وصلت البحوث إلى دراسة جانب آخر يتعلق بمناطق «أرصفة الموانئ» في الخلايا العصبية، والتي تستقبل وتتفاعل مع هرمون آخر، معني بشأن الشهية والجوع، ويُدعى ميلانوكورتين-4 Melanocortin-4. وكان قد تبين أن هذا الهرمون حينما ينشط، فإنه يُخفّض الشعور بشهية تناول الأكل. وانه حينما ينخفض مستواه أو لا يتم إنتاجه في جسم إنسان ما، فإن السمنة هي النتيجة.
وكانت الدراسات على الفئران قد دلت على أن هذا الهرمون يعمل على مناطق معينة في الدماغ، منها منطقة «لوزة الدماغ». ولذا عندما ينشط في إثارة هذه المنطقة الدماغية، فإن كمية الأنسجة الشحمية في الجسم تقل عبر تقليل الرغبة في الأكل. كما أن الدراسات تلك دلت على أن تأثير هذا الهرمون على مناطق أخرى من الدماغ يعمل على تنشيط استهلاك وحرق الجسم للطاقة التي تراكمت خاماتها في الجسم نتيجة للأكل.
والدراسة الأميركية الجديدة، محل العرض، تأتي مكملة للمشوار العلمي، المتقدم الذكر، في توضيح دور الدماغ والجهاز العصبي في زيادة الوزن والسمنة عبر اضطرابات شهية الأكل والشبع والجوع. وللقيام بالدراسة، استخدم الباحثون من مختبرات بروكهافن القومية، التابعة للحكومة الأميركية، تقنية تصوير النشاط الوظيفي لمناطق الدماغ بالرنين المغناطيسي Functional MRI. وكان الهدف هو رصد نوعية تفاعل الدماغ مع رسائل الشبع Satiety التي ترسلها المعدة تباعاً في مراحل متتالية من تدرج امتلائها بالطعام.
وقال الدكتور جين-جاك وانغ، الباحث الرئيس في الدراسة من قسم ترجمة التصوير العصبي Translational Neuroimaging التابع لمركز برووكهافن، أمكننا إثارة الشعور بامتلاء المعدة عبر وضع بالون، قابل للاتساع في الحجم، داخل المعدة. وأضاف أنه أمكننا بالتجربة رؤية مدى قوة النشاط في مناطق مختلفة من الدماغ لدى أشخاص ذوي أوزان عادية ولدى منْ لديهم زيادة في الوزن.
لوزة الدماغ والشبع
ووجد الباحثون أن نشاط مناطق معينة في الدماغ، وتحديداً في المنطقة الدماغية المعروفة باسم «اللوزة الخلفية اليسرى» Left Posterior Amygdala، كان منخفضاً عند امتلاء معدة الأشخاص من ذوي الوزن الزائد، بالمقارنة مع نشاط تلك المناطق الدماغية لدى الأشخاص الطبيعيين في الوزن.
كما لاحظوا أيضاً أن تلك المنطقة الدماغية لا تعمل على تبليغ المناطق العليا في الدماغ برسائل الشبع التي تصل إليها من المعدة عند امتلائها بأحجام متوسطة من الطعام. أي أن تلك المنطقة الدماغية تتفاعل بشكل ضعيف مع رسائل المعدة إليها حال امتلائها بالطعام، كما لا تتفاعل مع امتلاء المعدة بكميات متوسطة من الطعام.
وعلق الدكتور وانغ على هذه النتائج بالقول إنها تعطينا أدلة جديدة للإجابة عن التساؤلات حول استمرارية البعض في تناول الطعام على الرغم من تناول كميات معتدلة ومتوسطة وكافية منه. وأضاف بأن الدراسة زودتنا لأول مرة بأدلة تُؤكد العلاقة فيما بين منطقة «اللوزة الخلفية اليسرى» للدماغ وبين استمرار الشعور بالجوع، على الرغم من امتلاء المعدة بالطعام. واستطرد بأنه لو تفاعلت هذه المنطقة الدماغية وزاد نشاطها لأدى ذلك إلى خفض الشعور بالجوع لدى الإنسان.
وقال الباحثون إن النتائج تشير إلى احتمال الاستفادة منها عبر توجيه استراتيجيات معالجة السمنة وزيادة الوزن نحو استهداف نشاط تلك المنطقة الدماغية، بوسائل سلوكية أو دوائية أو جراحية.
كما توصل الباحثون إلى نتيجة مثيرة للاهتمام حول أحد الهرمونات المرتبطة بشؤون الشبع والجوع، والذي يُدعى هرمون غريلين. ولاحظ الباحثون أن الأشخاص الذين تظهر لديهم في الدم معدلات عالية من هرمون غريلين بعد امتلاء المعدة بكميات متوسطة من الطعام، تنشط لديهم أيضاً بشكل أكبر منطقة «اللوزة الخلفية اليسرى» للدماغ.
وقالوا إن هذه النتيجة قد تشير إلى أن هرمون غريلين يتحكم في قوة نشاط تفاعل منطقة «اللوزة الخلفية اليسرى» للدماغ حينما تصل إليها رسائل الشبع من المعدة.
* شهية «طبيعية» وأخرى «غير طبيعية».. فارق بين متعة أكل «المشمّر والمحمّر» وسد حاجة الجوع
* الجوع واحد، أما الشهية فمتعددة. وثمة فارق كبير ما بين الشعور بـ «انفتاح» الشهية للأكل وبين الشعور بالجوع، إذ إن كليهما على ضفتين مختلفتين من النهر، كما يُقال.
ذلك أن ما يُثير الشعور بالجوع هو أمر محدد، لا لبس فيه من الناحية العلمية، وهو انخفاض مستوى مخزون مادة غلايكوجين Glycogen في الكبد. ويتطلب هذا الوضع تناول الطعام. ومعلوم أن هذه المادة تتكون في الكبد، بشكل رئيسي من السكريات، كمخزون يستخدمه الجسم في إنتاج الطاقة خلال فترات ما بين تناول وجبات الطعام. ولذا حينما يتدنى مخزون هذه المادة، فلا مجال للهزل بالنسبة إلى الجسم، بل الأمر يتطلب الحث على تناول كميات من الطعام لتأمين طاقة يحتاجها الجسم لحياته ونشاط أعضائه.
أما ما يُثير الشهية في تناول أنواع من الأكل، أو تناول أي أكل، فأمر آخر لا علاقة محددة وواضحة له بعناصر أساسية لحياة الجسم ونشاط أعضائه، ذلك أن الأصل هو أن شهية الأكل والرغبة بتناوله يجب أن تكون موجودة بصفة طبيعية كي تضبط تناول فقط الكمية اللازمة للجسم من طاقة الغذاء. ولذا يتم تنظيم مستوى «الشهية الطبيعية» بالتفاعل ما بين أجزاء الجهاز الهضمي والأنسجة الشحمية والدماغ والجهاز العصبي اللاإرادي والغدة الدرقية والغدة الكظرية وغيرها، من خلال مجموعة من الهورمونات والرسائل العصبية.
وتعتبر منطقة «ما تحت المهاد» Hypothalamus، الموجودة في قاع الدماغ، هي الجزء الأهم في ضبط إيقاع الشعور بالجوع ومستوى الشهية لتناول الأكل. وتتفاعل هذه المنطقة الدماغية مع هورمونات مثل غريلين وليبتين وبي بي واي 3_33 PYY 3-36 وأوركسين Orexin وسي سي كي Cholecystokinin وغيرها، وهي هورمونات تُفرز من مناطق شتى في الجسم لأداء دور في تنظيم عمل منطقة «ما تحت المهاد» لضبط الشهية والجوع.
وتتدخل عوامل كيميائية يتم إفرازها حال وجود التهابات في الجسم أو أورام سرطانية، في خفض تفاعل تلك المنطقة الدماغية لإثارة الرغبة في الأكل. وهو ما يبرر نقص الشهية حال الإصابة بتلك الأمراض. وحينما تضطرب وظائف مناطق أخرى في الدماغ، كما في حالات الاكتئاب أو التوتر أو غيرها، فإن تفاعل منطقة "ما تحت المهاد" يضطرب أيضاً في جانب شهية الأكل.
لكن ما نراه يحصل في القرن الواحد والعشرين، وفي أجزاء من القرن العشرين، وبشكل واضح وغير مسبوق، من انتشار السمنة وزيادة الوزن بشكل «وبائي»، يتطلب منا فهماً لآليات معقدة من إثارة لـ «شهية غير طبيعية» لدى بعض الناس لتناول أطعمة معينة أو عموم الأطعمة. بمعنى أن وجود شهية عالية في حال عدم وجود جوع أو وجود مستوى متدن منه، هو أمر ذو أهمية خاصة ويحتاج إلى بحث علمي متعمق، لأن الشهية «غير الطبيعية» تصبح موجهة نحو أطعمة معينة أو أطعمة جذابة بناءً على طعمها الشهي. ويغدو بالتالي تناول الطعام نتاج عوامل «داخلية» تتعلق بحدة القدرة الشخصية على الإحساس بالطعم والرائحة، وبعوامل «خارجية» تتعلق بخصائص تلك الأطعمة.
والمشكلة ليست في العوامل الداخلية، بل في التلاعب بالعوامل الخارجية في خصائص الأطعمة من خلال طرق إنتاجها وإضافة المواد العديدة إليها لتتداخل فيها عناصر الحلاوة مع طلاوة الدهون مع خفة القرمشة والقشور المقلية. أي بعبارة أخرى ندخل على خط «المشمر والمحمر» وعلى روعة وصف بديع الزمان الهمذاني لأصناف الطعام في «مقاماته».
ومن هنا دخل أيضاً مصطلح «بيئة منتجة للسمنة» Environment Obesigenic، حينما يعيش المرء في ظروف كل ما فيها يثير الشهية نحو تناول أطعمة تعمل شيئاً واحداً، ألا وهو زيادة الوزن والإصابة بالسمنة. كما بدأ التساؤل العلمي حول مدى حقيقة وجود سمات وراثية Genetic Traits تنشط في دماغ البعض، لتثير لديهم عملية اشتهاء تناول أطعمة لذيذة دون غيرها. ومن ثم جرى البحث عن علاقة مناطق معينة في الدماغ معنية بالشعور بالمكافأة والمردود، ما يجعل من تناول أطعمة شهية معينة أكثر متعة للإنسان.
والواقع أن العلاقة الثلاثية ما بين شهية تناول الأطعمة والسمنة وصعوبة اتباع حمية غذائية صحية مكونة من أطعمة طبيعية متوازنة، هي أعقد بكثير مما يظنه البعض ولا يزال من المبكر جداً طبياً وضع حلول عملية وواقعية وقابلة للتطبيق، لها. إلا أن الأساس المتوازن والحكيم لا يزال هو أن لا يأكل الإنسان إلا حينما يجوع، وعليه أن يضبط كمية أكله، ولا يعتمد فقط في وقف تناول الأكل على مدى تحقق شعوره بالشبع.
وبهذا تزداد وضوحاً ملامح صورة تلك العلاقة في ما بين الدماغ من جهة وبين كل من شهية الأكل والجوع والشبع من جهة أخرى. وتكتسب الدراسات والبحوث الطبية حول دور الدماغ في تنظيم وضبط شهية الأكل ومقدار ما يتناوله المرء منه، أهمية عالية اليوم، نظراً للانتشار «الوبائي» لحالات كل من السمنة وزيادة الوزن. إذْ تشير الإحصاءات الطبية، في الدول التي تهتم بإجرائها وتستفيد منها، إلى أن حوالي ثلثي السكان إما مصابون بزيادة الوزن أو بالسمنة، كما في الولايات المتحدة. وهذا ما يستهلك في تلك الدولة حوالي 93 مليار دولار سنوياً، أي حوالي 9% من النفقات الصحية على المستوى القومي، في تكاليف العناية بالسمنة وتبعاتها الصحية سنوياً.
وثمة قصة طبية لمراحل بحث العلماء في علاقة الدماغ بالسمنة، خاصة في جوانب تعليل الإقبال على المأكولات، التي يتفق البشر على أنها لذيذة الطعم عند الأكل والاستمتاع به، كي تُضاف هذه القصة إلى قصة أخرى، سبق طرحها عن تأثيرات تفاعل أعصاب الإحساس بطعم الدهون في الفم، على السمنة وزيادة الوزن.
شهية عصبية كيميائية وبالرغم من عدم اكتشاف البشر لأي وسيلة علاجية «تشفي» من السمنة أو زيادة الوزن، إلا أن السنوات القليلة الماضية شهدت في الواقع حالة من «الطفرة» الحميدة في معرفة البشر بتلك الطرق التي تتحكم وتضبط رغباتنا في تناول الأطعمة، والتي إذا ما حصل فيها أي اضطرابات، ظهرت مشاكل السمنة أو زيادة الوزن. وما تتجه المعرفة الطبية نحو جلاء جوانبه، هو آليات تلك العمليات العصبية الكيميائية المعقدة complex neurochemical التي تنظم شهيتنا لتناول الأكل وعلاقتها بوزن جسم أحدنا.
وأهمية هذه المعرفة هي لفهمنا بشكل أوسع سبب وكيفية إصابة البعض بالسمنة، ولإيضاح تأثيرات أنواع الحمية على وزن الجسم وتمييز ما هو فاعل ومفيد منها، ولجلاء حقيقة العلاقة بين السمنة وبين مضاعفاتها، كالسكري وأمراض شرايين القلب وغيرهما، ولوضع وسائل علاجية آمنة وفاعلة للسمنة.
والعلماء قد بدأوا بالفعل في بعض من جهود الترجمة التطبيقية لتلك المعلومات المتوفرة حول دور الجهاز العصبي في الأكل، نحو تطوير وسائل علاجية واعدة قد تقطع من الأصل مشاكل اضطرابات الوزن، لأن الحاجة إلى مثل هذه الوسائل الآمنة والفاعلة، تمليها تلك الضرورات التي اتضحت من فشل الطرق العلاجية الموجهة نحو حل «عالمية» مشكلة السمنة أو اضطرابات الوزن، مثل الوسائل الجراحية المستنفدة لطاقات المعدة في علاج مشكلة السمنة والمتسببة بتبعات صحية خطيرة، وكذلك من صعوبة اتباع الكثيرين للحمية الغذائية الصحية، وظهور موضات من الحميات الغذائية غير الصحية ذات التأثيرات الصحية الضارة على المدى البعيد. وتسبب العلاجات الدوائية الواسعة الانتشار، مثل زينيكال، في مضاعفات صحية على مستخدميها وفي أيضاً المحدودية الشديدة في إنقاص الوزن.
اختراق تاريخي
ويُعتبر اكتشاف هرمون ليبتين leptin عام 1994 اختراقا تاريخيا رئيسيا في حقل دراسات العلوم العصبية لفهم السمنة. ذلك أنه ولأول مرة، يُكشف النقاب عن وجود هرمون تفرزه خلايا الأنسجة الشحمية ويتحمل مسؤولية مهمة في الحث على عملية تناول الطعام. ويُؤدي ارتفاع نسبة هرمون ليبتين إلى تنشيط عمل خلايا معينة في الدماغ تعمل على إثارة الشعور بالشبع والامتلاء وخمود الرغبة في شهية الأكل، بينما يُؤدي انخفاض نسبته إلى إثارة الشعور بالجوع. بل وصل العلماء إلى حد الاعتقاد بأن دور هرمون ليبتين أهم من هرمون الأنسولين في تنظيم التوازن الدقيق والحساس فيما بين كمية طاقة (كالورى) وجبات الطعام المتناولة وبين حرق واستهلاك الجسم لتلك الطاقة الداخلة عليه.
هذا ولا يزال يوجد شيء من الغموض حول كيفية عمل هرمون ليبتين على ضبط الشهية للأكل، إلا أن البحوث الحديثة تُوحي بأن هرمون ليبتين يضبط شهية الأكل عبر التفاعل مع مناطق معينة في الدماغ معنية بالشعور بالمكافأة والمردود، ما يجعل من تناول أطعمة شهية معينة أكثر متعة للإنسان. وهنا بيت القصيد في شأن الشهية والأكل والسمنة، إذ ان «المتعة» و«اللذة» هي المسيطرة على المرء حال تناوله للطعام وإكثاره منه، نتيجة للاستمتاع به بالدرجة الأولى. ولذا تشير تلك الدراسات إلى أن أطعمة حلوة الطعم ودسمة المحتوى، تثير الرغبة في تناولها، بخلاف أطعمة صحية غير مثيرة للرغبة في تناولها كالخضار النيئة في السلطات أو الحبوب الكاملة المجردة.
لكن الآمال باستخدام طريقة علاجية ما للتعامل مع هرمون ليبتين باءت في بداياتها بالفشل، لأن العلماء اكتشفوا أن الأمور، في جانب دور الجهاز العصبي والهرموني على السمنة، هي أعقد بكثير من مجرد اكتشاف هرمون واحد وتحديد بعض من ملامح تأثيراته على مناطق متعددة من الجسم. ولاحظوا أن قلة جداً من البدينين يستجيبون لتأثيرات تناول هذا الهرمون، أما الغالبية فتنشأ لديهم حالة من مقاومة الجسم وممانعته لتأثيرات الكميات المتناولة منه.
هرمون غريلين
ثم جاء الحديث عن هرمون آخر يُدعى هرمون غريلين Ghrelin. وغريلين هرمون تم اكتشافه عام 1999، وتفرزه الخلايا المبطنة لأعلى المعدة، بهدف إثارة الشهية للأكل. ولذا ترتفع نسبة هذا الهرمون قبل الأكل، وتنخفض بعده.
كما تنخفض نسبة هرمون غريلين لدى منْ تم لهم إجراء عمليات تقليص وتحزيم المعدة، وتقل بالتالي لديهم الشهية للأكل حتى قبل تناول الواحد منهم للطعام. ويُعتبر هرمون غريلين، الهرمون المضاد في المفعول لهرمون ليبتين، الذي هو، كما تقدم، هرمون تفرزه خلايا الأنسجة الشحمية لإثارة الشعور بالتخمة والشبع. إلا أن عمل هرمون غريلين أسرع ويتفاعل الجسم معه على مستوى «ما بين وجبة والتالية لها»، ولذا ترتفع نسبته في الدم سريعاً لتخبر الدماغ بأن المعدة خالية، وبمجرد امتلاء المعدة، بالأكل أو أي شيء آخر كبالون منفوخ، ينخفض مستواه.
لكن المفارقة، التي قد تحير البعض، هي أنه بشكل عام في المقارنة، تقل نسبة هذا الهرمون في أجسام الأشخاص البدينين مقارنة بالنحيفين! إلا أن الأهم في الأمر هو أن الإنسان حينما يبدأ بحمية غذائية، قاسية أو حنونة، فإن نسبة هرمون غريلين تبقى مرتفعة بشكل متواصل، ما يزيد من العبء على الدماغ، وما يثير الشعور الدائم بالحاجة إلى ضرورة تناول الطعام، وبالتالي ما يُؤدي إلى فشل التزام المرء بالاستمرار في تلك الحمية.
ولذا ثمة باحثون يُحاولون البحث عما يُعيق عمل أو إنتاج هرمون غريلين لمساعدة المرء على استمراره في حمية إنقاص الوزن. كما أن ثمة من يعمل على إنتاج لقاح يقوم بإعاقة وصول هرمون غريلين إلى خلايا الدماغ، وبالتالي منع تأثرها بمفعول هذا الهرمون، كوسيلة لإنقاص الوزن.
بحوث متواصلة
وتواصلت الدراسات العلمية لفحص علاقة هذا الهرمون بهرمون آخر يُدعى هرمون أوبستاتين Obestatin. وهرمون أوبستاتين يعمل على خفض مستوى شهية الأكل، وتم اكتشافه في عام 2005. وأهمية معرفة العلاقة بينهما ليست نابعة فقط من ذلك التضاد في ما بين مفعول كل منهما، بل أيضاً من أنهما يُنتجان في خلايا الجسم تحت تأثير «جين» وراثي واحد.
إلى أن وصلت البحوث إلى دراسة جانب آخر يتعلق بمناطق «أرصفة الموانئ» في الخلايا العصبية، والتي تستقبل وتتفاعل مع هرمون آخر، معني بشأن الشهية والجوع، ويُدعى ميلانوكورتين-4 Melanocortin-4. وكان قد تبين أن هذا الهرمون حينما ينشط، فإنه يُخفّض الشعور بشهية تناول الأكل. وانه حينما ينخفض مستواه أو لا يتم إنتاجه في جسم إنسان ما، فإن السمنة هي النتيجة.
وكانت الدراسات على الفئران قد دلت على أن هذا الهرمون يعمل على مناطق معينة في الدماغ، منها منطقة «لوزة الدماغ». ولذا عندما ينشط في إثارة هذه المنطقة الدماغية، فإن كمية الأنسجة الشحمية في الجسم تقل عبر تقليل الرغبة في الأكل. كما أن الدراسات تلك دلت على أن تأثير هذا الهرمون على مناطق أخرى من الدماغ يعمل على تنشيط استهلاك وحرق الجسم للطاقة التي تراكمت خاماتها في الجسم نتيجة للأكل.
والدراسة الأميركية الجديدة، محل العرض، تأتي مكملة للمشوار العلمي، المتقدم الذكر، في توضيح دور الدماغ والجهاز العصبي في زيادة الوزن والسمنة عبر اضطرابات شهية الأكل والشبع والجوع. وللقيام بالدراسة، استخدم الباحثون من مختبرات بروكهافن القومية، التابعة للحكومة الأميركية، تقنية تصوير النشاط الوظيفي لمناطق الدماغ بالرنين المغناطيسي Functional MRI. وكان الهدف هو رصد نوعية تفاعل الدماغ مع رسائل الشبع Satiety التي ترسلها المعدة تباعاً في مراحل متتالية من تدرج امتلائها بالطعام.
وقال الدكتور جين-جاك وانغ، الباحث الرئيس في الدراسة من قسم ترجمة التصوير العصبي Translational Neuroimaging التابع لمركز برووكهافن، أمكننا إثارة الشعور بامتلاء المعدة عبر وضع بالون، قابل للاتساع في الحجم، داخل المعدة. وأضاف أنه أمكننا بالتجربة رؤية مدى قوة النشاط في مناطق مختلفة من الدماغ لدى أشخاص ذوي أوزان عادية ولدى منْ لديهم زيادة في الوزن.
لوزة الدماغ والشبع
ووجد الباحثون أن نشاط مناطق معينة في الدماغ، وتحديداً في المنطقة الدماغية المعروفة باسم «اللوزة الخلفية اليسرى» Left Posterior Amygdala، كان منخفضاً عند امتلاء معدة الأشخاص من ذوي الوزن الزائد، بالمقارنة مع نشاط تلك المناطق الدماغية لدى الأشخاص الطبيعيين في الوزن.
كما لاحظوا أيضاً أن تلك المنطقة الدماغية لا تعمل على تبليغ المناطق العليا في الدماغ برسائل الشبع التي تصل إليها من المعدة عند امتلائها بأحجام متوسطة من الطعام. أي أن تلك المنطقة الدماغية تتفاعل بشكل ضعيف مع رسائل المعدة إليها حال امتلائها بالطعام، كما لا تتفاعل مع امتلاء المعدة بكميات متوسطة من الطعام.
وعلق الدكتور وانغ على هذه النتائج بالقول إنها تعطينا أدلة جديدة للإجابة عن التساؤلات حول استمرارية البعض في تناول الطعام على الرغم من تناول كميات معتدلة ومتوسطة وكافية منه. وأضاف بأن الدراسة زودتنا لأول مرة بأدلة تُؤكد العلاقة فيما بين منطقة «اللوزة الخلفية اليسرى» للدماغ وبين استمرار الشعور بالجوع، على الرغم من امتلاء المعدة بالطعام. واستطرد بأنه لو تفاعلت هذه المنطقة الدماغية وزاد نشاطها لأدى ذلك إلى خفض الشعور بالجوع لدى الإنسان.
وقال الباحثون إن النتائج تشير إلى احتمال الاستفادة منها عبر توجيه استراتيجيات معالجة السمنة وزيادة الوزن نحو استهداف نشاط تلك المنطقة الدماغية، بوسائل سلوكية أو دوائية أو جراحية.
كما توصل الباحثون إلى نتيجة مثيرة للاهتمام حول أحد الهرمونات المرتبطة بشؤون الشبع والجوع، والذي يُدعى هرمون غريلين. ولاحظ الباحثون أن الأشخاص الذين تظهر لديهم في الدم معدلات عالية من هرمون غريلين بعد امتلاء المعدة بكميات متوسطة من الطعام، تنشط لديهم أيضاً بشكل أكبر منطقة «اللوزة الخلفية اليسرى» للدماغ.
وقالوا إن هذه النتيجة قد تشير إلى أن هرمون غريلين يتحكم في قوة نشاط تفاعل منطقة «اللوزة الخلفية اليسرى» للدماغ حينما تصل إليها رسائل الشبع من المعدة.
* شهية «طبيعية» وأخرى «غير طبيعية».. فارق بين متعة أكل «المشمّر والمحمّر» وسد حاجة الجوع
* الجوع واحد، أما الشهية فمتعددة. وثمة فارق كبير ما بين الشعور بـ «انفتاح» الشهية للأكل وبين الشعور بالجوع، إذ إن كليهما على ضفتين مختلفتين من النهر، كما يُقال.
ذلك أن ما يُثير الشعور بالجوع هو أمر محدد، لا لبس فيه من الناحية العلمية، وهو انخفاض مستوى مخزون مادة غلايكوجين Glycogen في الكبد. ويتطلب هذا الوضع تناول الطعام. ومعلوم أن هذه المادة تتكون في الكبد، بشكل رئيسي من السكريات، كمخزون يستخدمه الجسم في إنتاج الطاقة خلال فترات ما بين تناول وجبات الطعام. ولذا حينما يتدنى مخزون هذه المادة، فلا مجال للهزل بالنسبة إلى الجسم، بل الأمر يتطلب الحث على تناول كميات من الطعام لتأمين طاقة يحتاجها الجسم لحياته ونشاط أعضائه.
أما ما يُثير الشهية في تناول أنواع من الأكل، أو تناول أي أكل، فأمر آخر لا علاقة محددة وواضحة له بعناصر أساسية لحياة الجسم ونشاط أعضائه، ذلك أن الأصل هو أن شهية الأكل والرغبة بتناوله يجب أن تكون موجودة بصفة طبيعية كي تضبط تناول فقط الكمية اللازمة للجسم من طاقة الغذاء. ولذا يتم تنظيم مستوى «الشهية الطبيعية» بالتفاعل ما بين أجزاء الجهاز الهضمي والأنسجة الشحمية والدماغ والجهاز العصبي اللاإرادي والغدة الدرقية والغدة الكظرية وغيرها، من خلال مجموعة من الهورمونات والرسائل العصبية.
وتعتبر منطقة «ما تحت المهاد» Hypothalamus، الموجودة في قاع الدماغ، هي الجزء الأهم في ضبط إيقاع الشعور بالجوع ومستوى الشهية لتناول الأكل. وتتفاعل هذه المنطقة الدماغية مع هورمونات مثل غريلين وليبتين وبي بي واي 3_33 PYY 3-36 وأوركسين Orexin وسي سي كي Cholecystokinin وغيرها، وهي هورمونات تُفرز من مناطق شتى في الجسم لأداء دور في تنظيم عمل منطقة «ما تحت المهاد» لضبط الشهية والجوع.
وتتدخل عوامل كيميائية يتم إفرازها حال وجود التهابات في الجسم أو أورام سرطانية، في خفض تفاعل تلك المنطقة الدماغية لإثارة الرغبة في الأكل. وهو ما يبرر نقص الشهية حال الإصابة بتلك الأمراض. وحينما تضطرب وظائف مناطق أخرى في الدماغ، كما في حالات الاكتئاب أو التوتر أو غيرها، فإن تفاعل منطقة "ما تحت المهاد" يضطرب أيضاً في جانب شهية الأكل.
لكن ما نراه يحصل في القرن الواحد والعشرين، وفي أجزاء من القرن العشرين، وبشكل واضح وغير مسبوق، من انتشار السمنة وزيادة الوزن بشكل «وبائي»، يتطلب منا فهماً لآليات معقدة من إثارة لـ «شهية غير طبيعية» لدى بعض الناس لتناول أطعمة معينة أو عموم الأطعمة. بمعنى أن وجود شهية عالية في حال عدم وجود جوع أو وجود مستوى متدن منه، هو أمر ذو أهمية خاصة ويحتاج إلى بحث علمي متعمق، لأن الشهية «غير الطبيعية» تصبح موجهة نحو أطعمة معينة أو أطعمة جذابة بناءً على طعمها الشهي. ويغدو بالتالي تناول الطعام نتاج عوامل «داخلية» تتعلق بحدة القدرة الشخصية على الإحساس بالطعم والرائحة، وبعوامل «خارجية» تتعلق بخصائص تلك الأطعمة.
والمشكلة ليست في العوامل الداخلية، بل في التلاعب بالعوامل الخارجية في خصائص الأطعمة من خلال طرق إنتاجها وإضافة المواد العديدة إليها لتتداخل فيها عناصر الحلاوة مع طلاوة الدهون مع خفة القرمشة والقشور المقلية. أي بعبارة أخرى ندخل على خط «المشمر والمحمر» وعلى روعة وصف بديع الزمان الهمذاني لأصناف الطعام في «مقاماته».
ومن هنا دخل أيضاً مصطلح «بيئة منتجة للسمنة» Environment Obesigenic، حينما يعيش المرء في ظروف كل ما فيها يثير الشهية نحو تناول أطعمة تعمل شيئاً واحداً، ألا وهو زيادة الوزن والإصابة بالسمنة. كما بدأ التساؤل العلمي حول مدى حقيقة وجود سمات وراثية Genetic Traits تنشط في دماغ البعض، لتثير لديهم عملية اشتهاء تناول أطعمة لذيذة دون غيرها. ومن ثم جرى البحث عن علاقة مناطق معينة في الدماغ معنية بالشعور بالمكافأة والمردود، ما يجعل من تناول أطعمة شهية معينة أكثر متعة للإنسان.
والواقع أن العلاقة الثلاثية ما بين شهية تناول الأطعمة والسمنة وصعوبة اتباع حمية غذائية صحية مكونة من أطعمة طبيعية متوازنة، هي أعقد بكثير مما يظنه البعض ولا يزال من المبكر جداً طبياً وضع حلول عملية وواقعية وقابلة للتطبيق، لها. إلا أن الأساس المتوازن والحكيم لا يزال هو أن لا يأكل الإنسان إلا حينما يجوع، وعليه أن يضبط كمية أكله، ولا يعتمد فقط في وقف تناول الأكل على مدى تحقق شعوره بالشبع.
تابعنا على :